مفهوم التوافق
التوافق والصحة النفسية
اعداد
د. منى توكل السيد
التوافــــــق
يعد التوافق أحد المفاهيم الأساسية في الصحة النفسية وعلم النفس بعامة لما يمثل من أهمية كبرى في تحقيق تعايش الفرد مع نفسه وبيئته الاجتماعية والانفعالية والمنزلية، إذ أن التوافق يمتد إلى جميع اوجه نشاط الفرد وذلك باعتبار أن الإنسان يتعرض في حياته لمواقف وصعوبات ومواجهة مع البيئة التي تحتوى على مواد لازمة لإشباع حاجاته المختلفة، وهو من أجل الحصول على هذه الحاجات لابد من أن ينسجم سلوكه مع عادات وتقاليد وأعراف وقوانين متبعة، أي أن حياة الفرد عبارة عن سلسلة من التوافقات لمواقف حياته النفسية أو الاجتماعية أو المنزلية (الخميسى،1997: 60).
كلمة توافق Adjustment تعنى لغوياً التقريب والوفاق، ويدل هذا المعنى على أن علماء اللغة إنما ينظرون في تفسير الكلمة إلى مدلولها الاجتماعي، وهذا هو المعنى ذاته الذي اختاره علماء النفس للدلالة على حالة التقارب بين طرفين يسعى كل منهما إلى إضعاف عناصر الخلاف بينه وبين الطرف الثاني وتنمية عناصر الاتفاق (عبد الرحيم: 1981).
كما تعرف دائرة المعارف البريطانية (Encyclopedia Britannica, 1978:102) التوافق بأنه "السلوك الذي يحافظ به الكائن الحي على التوازن بين احتياجاته ومتطلبات البيئة التي يعيش فيها".
وقد ارتبط التوافق النفسي ببعض المفاهيم إلى درجة الخلط بينها، ولعل هذا الخلط ناجم عن ارتباط هذه المفاهيم ببعضها، ومن أمثلة التعاريف التي ربطت بين التوافق والصحة النفسية:
تعريف فهمي (1998: 18) الذي يرى فيه أن الصحة النفسية هي: «علم التكيف أو التوافق النفسي الذي يهدف إلى تماسك الشخصية، ووحدتها، وتقبل الفرد لذاته، وتقبل الآخرين له بحيث يترتب على هذا كله شعوره بالسعادة والراحة النفسية». ويعرف القريطي (2003: 28) الصحة النفسية بأنها: «حالة عقلية انفعالية إيجابية، مستقرة نسبيا، تعبر عن تكامل طاقات الفرد ووظائفه المختلفة، وتوازن القوى الداخلية والخارجية الموجهة لسلوكه في مجتمع، ووقت ما، ومرحلة نمو معينة، وتمتعه بالعافية النفسية والفاعلية الاجتماعية». ويرى كيلاندر Kilander بأن الصحة النفسية: «تقاس بمدى قدرة الإنسان على التوافق مع الحياة، بما يؤدي بصاحبه إلى قدر معقول من الإشباع الشخصي والكفاءة والسعادة» (عبد الغفار، 2007).
التوافق كمرادف لمصطلح التكيف:
تعريف الطحان (1996: 47) للتوافق النفسي في إطار مفهومه عن الصحة النفسية بأنه: «حالة من الاتزان النفسي تتجلى في تكامل شخصية الفرد، والتخطيط لمستقبله، وحل مشكلاته، والتكيف مع الواقع، والتمتع بقدر من الثبات الانفعالي الذي يمكن الفرد من إقامة علاقات اجتماعية ناجحة، والالتزام بقيم توجه سلوكه، والإسهام في بناء المجتمع، والشعور بالطمأنينة والرضا». ويعرف سكوت Scott التوافق بأنه: «القدرة العامة على التكيف، وعلى إرضاء الذات، والكفاية في العلاقة بين الأشخاص، وتشمل القدرة العقلية، والتحكم بالدوافع، والعواطف، والمواقف مع الآخرين، والقدرة الإنتاجية، والاستقلال الذاتي، والنضج، والموقف المناسب من الذات» (العزة، 2004).
ورغم الخلط الواضح بين مصطلحات (التوافق، والتكيف النفسي، والصحة النفسية)، إلا أن هذه المصطلحات مترابطة ببعضها، لكن الصحة النفسية أكثر عمومية من التوافق، والتكيف النفسي، وهما مظهران يدلان عليها، وتعني الصحة النفسية في هذه الحالة: توفر القدرة الكافية التي تمكن الشخص من التكيف مع ظروف الحياة المختلفة من خلال استخدام أساليب توافقية تساعده على الاستمرار في الحياة بأقصى قدر من الكفاءة، وبناء عليه، فمن المفترض أن الشخص المتمتع بقدر من الصحة النفسية إذا تعرض لصعوبة ما، سيتكيف مع وضعه الطارئ، دون أن يجعل هذا الظرف معوقا، وسوف يتخذ أساليب توافقية تحقق له الإشباع لحاجاته وتدعمه نفسيا ليصبح قانعا ومستقرا رغم معاناته.
ارتبط التوافق النفسي أيضا بمفهوم التكيف، فهناك من يرى أنهما يختلفان على أساس أن العمليات البيولوجية التي تقابل متطلبات البيئة المادية هي: نشاط تكيفي، أما السلوك الذي يقابل متطلبات البيئة الاجتماعية هو: نشاط توافقي (Bernard, 1971)، وهناك من يرى أن التوافق مرادف للتكيف على اعتبار أنهما يمثلان منظورا وظيفيا، فالسلوك ينبغي أن يفهم باعتباره محاولة للتكيف للأنواع المختلفة من الحاجات الجسمية، أو توافقا للمتطلبات السيكولوجية (فهمي، 1979)، وهناك من اعتبر التكيف مفهوما أشمل من التوافق، على أساس أن التكيف يتضمن الحيوان والنبات في علاقتهما بالبيئة المادية والاجتماعية (سفيان، 2004)، ومنهم من اعتبر التوافق مفهوما أعم من التكيف، على أساس أن التكيف يختص بالنواحي الفسيولوجية، والتوافق يشمل النواحي النفسية والاجتماعية (السندي، 1996) بحيث تصبح عملية تغيير الفرد لسلوكه ليتسق مع غيره، باتباعه للعـادات والتقاليد وخضوعـه للالتزامات الاجتماعية عملية توافق، وتصبح عملية تغيير حدقة العين باتساعها في الظلام وضيقها في الضوء الشديد عملية تكيف (السيد، 1975)، ومنهم من نظر إلى التوافق على أنه ثمرة للتكيف، وأن سوء التوافق هو عدم القدرة على ملاءمة ما هو نفسي بما هو اجتماعي (دسوقي، 1974).
يؤكد العلماء والمختصون أن حياة الإنسان برمتها عبارة عن عمليات توافق تتابعيه، أو مستمرة، وأن عمليات تكيفه المستمرة بحاجة إلى معلومات مستمرة وخبرات تراكمية لفهم الواقع المحيط، وإدراك المتغيرات ذات الصلة بالبيئة التي يعيشها، وأن المعلومات والخبرات وحدها ليست كافية لإتمام عملية التوافق، بل تقتضى الحاجة وجود الاستعداد النفسي والمرونة الشخصية .
ولقد تناولت العديد من النظريات موضوع التوافق، فقد أشارت نظرية التحليل النفسي إلى أن التوافق السوى يحدث من خلال إشباع الغرائز، وتقليل العقاب، والشعور بالذنب وغياب المشكلات التي تنبع من الحالة الداخلية للفرد أو من البيئة الاجتماعية الخارجية، أما التوافق الداخلي فإنه يتحقق عندما يكون الفرد خالياً من الصراعات الداخلية بين حاجاته الخاصة والقيم، وفيما يتعلق بالكفاية الاجتماعية فإنه يتحقق من خلال التعامل بفاعلية مع البيئة الاجتماعية بحيث يتم تحقيق أهدافه بشكل معقول ومنطقي. (سليمان؛ المنيزل، 1999: 2)
وهناك رؤية مختلفة للتوافق تبناها صلاح مخيمر وتلامذته تستمد أصولها من نظرية التحليل النفسي، وتفرق هذه النظرية بين نوعين من التوافق: الأول أطلق عليه التوافق الاستاتي ويقصد به الإشباع الناتج عن خفض التوتر، أما الثاني فهو التوافق الحقيقي وهو حالة دينامية بين الرضا واللارضا فخفض التوتر يولد في نفس الوقت توتراً جديداً ويقول مخيمر في ذلك أن حالة الرضا التي يستشعرها الفرد بالبلوغ إلى الهدف لا يمكن أن تدوم فهي لا تلبث حتى تلد نقيضها، حالة من اللارضا تشبك الفرد في سلوك جديد سعياً لهدف جديد. (مخيمر،1981: 45)
ومن أبعاد التوافق النفسي: تحقيق مطالب النمو النفسي السوي في جميع مراحله (الطفولة والمراهقة والرشد والشيخوخة)، بكافة مظاهرة (جسمياً وعقلياً واجتماعياً وانفعالياً)، حتى يشعر الفرد بالرضا والسعادة.
ومن أهم الشروط التي تحقق التوافق النفسي: إشباع دوافع السلوك(مثل دوافع الجوع والتملك والجنس... الخ)، وإشباع الحاجات (الفسيولوجية والحاجة إلى الأمن والحب وتأكيد الذات... الخ).
والتوافق حسب وجهة النظر السلوكية يتحقق من خلال:
1) زيادة إدراك الفرد لجميع الظروف التي تؤدى إلى خلق السلوك الشاذ أو التي تمنع السلوك المطلوب من أن يحدث.
2) الطلب من الفرد معالجة كل من السلوك والظروف ذات العلاقة وتسجيلها وذلك لتقرير البديل المهم.
3) مكافأة السلوك المرغوب فيه ومعاقبة السلوك غير المرغوب فيه.
4) تقييم فاعلية السلوك الناتج والتوصل إلى معلومات جديدة حول الحاجات الأخرى.
المفهوم البيولوجي للتوافق:
طبقا لهذا المفهوم فإن التوافق يتعلق بعملية دينامية للتغير الذي ينمو إرادياً أو لا إرادياً من أجل وضع الجسم في موقع أكثر ملاءمة تجاه وسطه الداخلي أو تجاه المحيط الخارجي مع افتراض القدرة على التعلم، وأن الوسائل التي تشترك في ذلك ذات طبيعة نفسية أو بيولوجية أو الاثنين معاً. فالسلوك هو الوسيط المستخدم في أغلب الأحيان لوضع الجسم في وضع أقل تهديداً لإشباع حاجاته، فالجسم الذي يحاول بواسطة سلوكه المحافظة على التوازن السابق أو التأقلم وخلق توازن جديد متوافق مع استمرار بالحياة.