تفسير التوافق
النظريات المفسرة للتوافق النفسي
اعداد : د. منى توكل
اهتم العديد من العلماء النفسيين بوضع نظريات تمثل مجموعة من الاستنتاجات، والتفسيرات حول شخصية الإنسان، ووحدة وتكامل جوانب حياته، وكيفية التداخل والتفاعل بين نواحي الشخصية، والعوامل المؤثرة على توافقها النفسي، وفيما يلي استعراض لبعض تلك النظريات على النحو التالي:
أولا: المنظور الفرويدي
والشخصية من وجهة النظر الفرويدية هي أسلوب الفرد الذي يستخدمه من أجل تحقيق التوافق، هذا الأسلوب يتميز بتأثره بالعوامل السيكولوجية والفسيولوجية، وتتمثل في الغرائز واللبيدو، وتنحصر الغرائز عند فرويد في غريزة الحياة، وغريزة الموت، وتتمثل في العدوان (العناني، 2005)، ولكي يحمي الإنسان نفسه من التهديد، فإنه يلجأ إلى الحيل الدفاعية؛ للمحافظة على كيانه وأمانه النفسي (العناني، 2005) مثل: الكبت الذي يعد هو حيلة هروبية تلجأ إليها الأنا لطرد الدوافع والذكريات والأفكار الشعورية المؤلمة، أو المحزنة وإكراهها على التراجع إلى اللاشعور (الرفاعي، 2001)، والنكوص، وهو عبارة عن تراجع الفرد إلى أساليب طفلية أو بدائية في التفكير أو السلوك، حين يعجز عن التغلب بطريقة بناءة على ما يعانيه من كبت أو إحباط أو صراع..الخ (عبد المتجلي، 2004).
ثانيا: المنظور الأدلري
يرى أدلر Adler أن القوة الدافعية في الإنسان هي الرغبة في القوة، وهي نوع من التعويض عن مشاعر النقص التي تبدأ من الطفولة عندما يرى الطفل أنه أضعف من الكبار المحيطين به جسميا وعقليا، ويدفع به هذا الشعور إلى الكفاح من أجل التفوق والسمو، وما العصاب إلا محاولة سيئة من الإنسان لتحرير النفس من الشعور بالنقص (يوسف، 2001)، وسمى أدلر تطوير الإنسان لحياته وتحقيق التفوق على الآخرين الذي يتم بدافع الشعور بالعجز، بـ (أسلوب الحياة)، وكل فرد فريد في أسلوب حياته، بسبب التأثيرات المختلفة للذات الداخلية وتركيباتها (انجلر، ١٩٩١)، حيث يدفع الشعور بالعجز الإنسان إلى العمل، وزيادة العمل، وإتقانه من قبيل التعويض عن النقص، والشخص العاجز المصاب بعاهة يضم نفسه إلى طائفة ذوي العاهات، ليفرض على نفسه العضوية في جماعة منفصلة عن المجتمع لظروفها الخاصة فيشعر بشعورهم ويتمشى مع اتجاهاتهم (العبادي، 1984).
ثالثا: منظور التحليليين المحدثين
ترى كارين هورني K. Horney أن القلق وفقدان الضمان يؤديان إلى العصاب (يوسف، 2001) حيث ينمي القلق لدى الفرد أساليب مختلفة لمواجهة ما يشعر به، فقد يصبح عدوانيا أو خاضعا حتى يستعيد الحب الذي فقده، أو يكون لنفسه صورة مثالية؛ ليعوض ما يشعر به من نقص (عباس، 1990)، أما إيرك فروم Eric From فيرى بأن الإنسان يريد أن يكون جزءا متكاملا من العالم من حوله، وإذا انفصل عن العالم، أحس بالعجز وقلة الحيلة، وإخفاق الإنسان في إشباع ميوله يولد العصاب لديه، وترى أنا فرويد A.Freud بأن العصاب صادر عن (الأنا – الذات) ويصدر عنها أيضا الحيل اللاشعورية العقلية، كحلول دفاعية، أو هروبية(ياسين، 1988).
رابعا: المنظور السيكوبيولوجي
أسسه أدولف ماير Adolf Meyer ويعتقد أن هناك عوامل تؤثر على الفرد هي: الوراثة، وحياة الجنين، والطفولة، والأمراض، وضغوط الحياة، ومؤثرات البيئة (يوسف، 2001)، وفشل الإنسان في مواجهة الواقع، وعدم قدرته على تقبل طبيعته، والعالم كما هو يؤثر على توافقه النفسي (عكاشة، 1998)، والمخ لا يستطيع أن يفكر تفكيرا سليما إلا إذا كان هناك اتزان غددي، حيث تتحول القوة الداخلية في المخ إلى صور متعددة هي: الطاقة الجسمية، والنفسية، والعقلية، وهناك نوعان من الطاقة (الإيجابي، والسلبي)، وتوجه الطاقة الحيوية عن طريق (الشعور الواعي، والشعور غير الواعي)، وللشعور غير الواعي معنيان، الأول: سبق تكوين الشعور كابتسامة الطفل بعد الولادة التي ليس لها معنى في ذهنه، والثاني: هو الحالة التي تترسب فيها الخبرات إلى اللاشعور، وتثبت لتظهر في وقت آخر، وتتجه الطاقة التفاؤلية والتشاؤمية بغير وعي أو ضبط في الاضطراب النفسي، والجهاز الجسمي، والنفسي، والذكاء، والقدرات الخاصة هي الأجهزة المسئولة عن النجاح في المواقف الاجتماعية (أسعد، ب.ت).
خامسا: المنظور السلوكي
يرى بافلوف Pavlov أن الاضطراب النفسي ينجم من اضطراب بين استجابة الكف والاستثارة، وهي استجابات تعتمد على تكوين الفرد (ياسين، 1988)، وتنشأ الأمراض النفسية من أفعال منعكسة خاطئة تتكون بتأثير تفاعل عاملي البيئة والوراثة (الطحان، 1996)، وهي أنماط من السلوك المتعلم الخاطئ للتخفيف من آلام القلق، يعززها إحجام المريض عن القيام بأي عمل يؤدي إلى مخاوفه مما يثبت المرض لديه، ويفترض برتوبوبوف الروسيProtopopovوجود بؤرة الاستثارة في (الهيبوثالاماس) تؤدي إلى حدة جميع الأفعال المنعكسة التي تمر خلال طبقات ما تحت القشرة (جلال، 1986)، والسلوك التوافقي يشير إلى كيفية الاستجابة لتحديات الحياة، التي تقابل بالتعزيز أو التدعيم، حيث يكتسب الفرد العادات المناسبة والفعالة التي سبق أن تعلمها، وأدت إلى خفض توتره، أو أشبعت دوافعه وحاجاته، وأصبحت فيما بعد سلوكا توافقيا يستدعيه كلما وقف في ذات الموقف نتيجة التدعيم.
سادسا: المنظور البيوكيميائي
ويقوم على فكرة وجود ارتباط بين التغيرات الكيميائية، والتغيرات النفسية الانفعالية، حيث يكشف الأفراد اللذين تعرضوا للصدمات عن استجابات فيزيولوجية وكيميائية كالاستجابات المتصلة بالقلب، والارتفاعات في ضغط الدم التي تستمر طويلا... الخ، فالتغيرات الفيزيولوجية تنبه الفرد، وترفع من حساسيته، وتزيد من قابليته للجرح (عبد الخالق، 2006)، ويزداد إفراز الأمينات تحت ظروف الإثارة النفسية، كما أن العوامل النفسية والبيئية تتحكم في إفراز النورادرينالين والأدرينالين.
سابعا: المنظور الطبي
تؤكد النظرية العضوية الطبية على أن الأمراض النفسية هي نتاج لإصابات دماغية وأمراض عضوية (يوسف، 2001)، ويهتم المشتغلون في الطب النفسي بالجوانب المرضية المرتبطة بالاضطراب النفسي من الناحية الفسيولوجية، على أساس أنها اضطرابات وظيفية ناجمة عن اضطراب التنظيم الهرموني أو الكيميائي لدى الفرد مع إسهام العوامل الوجدانية والبيئية، وإذا تعين الخلل وعولج انتظمت الصحة النفسية، ويهتم أصحاب هذا الاتجاه باستخدام الأدوية والتدخل الجراحي لإزالة الأعراض بأي وسيلة بغض النظر عن ديناميكية الصراعات النفسية باعتبارها ذات طبيعة كيفية (عسكر، 1988).
ثامنا: المنظور الظاهرياتي (الفينومولوجي)
ويفسر هذا المنظور طريقة تفسير الفرد للظاهرة من وجهة نظره الخاصة، فمن وجهة النظر الفينومولوجية يظهر سوء التوافق في هيئة أعراض جسمية ومعنوية، تترجم طبيعة الحوار المتقبل بين الذات والعالم بوصف الذات انعكاسا كيفيا للعالم.
ويمكن أن تؤثر الحوادث الصدمية من وجهة النظر الفينومولوجية تأثيرا كبيرا على نسق الاعتقاد والمشاعر لدى الفرد، حيث تؤدي إلى هدم الافتراضات والمعتقدات الرئيسية لدى الفرد، ومن بينها: الاعتقاد في كون الشخص غير قابل للجرح، والاعتقاد بأن الحوادث مرتبة منظمة، يمكن التنبؤ بها، والشعور بالفقد والضياع، وفقد الثقة في الذات، والاعتقاد بأن العالم آمن، وفقد الثقة بالآخرين، وفقد الهوية، والشك في أن الناس موثوق بهم ويستحقون الاقتراب منهم والاتصال بهم، وتحطيم شعور الفرد بالأمن والأمان (عبد الخالق، 2006).
عاشرا: المنظور الإنساني
يؤكد أنصار الاتجاه الإنساني على أن الإنسان يجاهد لكي يحقق ذاته كإنسان، من خلال تحقق الاتساق بين الخبرات وصورة الذات، حيث يسمح الناس للمواقف التي تتفق مع مفهوم الذات بالدخول في الوعي، ومن ثم يدركونها بدقة، أما الخبرات الصراعية فهي عرضة، لأن تمنع من الدخول في الشعور، وتدرك من غير دقة، حيث يشعرون بتهديد الخبرات التي تتصارع مع مفاهيم الذات (دافيدوف، 1992).
وينتج سوء التوافق عند أصحاب هذا الاتجاه عن شعور الفرد بعدم القدرة وتكوين مفهوم سالب عن الذات، فمثلا يرى روجر Rogers أن الشخص الفعال هو الذي يعمل إلى أقصى مستوى، ويتصف بالانفتاح على الخبرات، ويكون مدركا وواعيا، لديه قدرة على العيش والسعادة، يتصرف بشكل سوي، يوظف طاقاته إلى أقصى حد، وسوء التوافق النفسي يمكن أن يستمر إذا حاول الفرد الاحتفاظ ببعض الخبرات الانفعالية بعيدا عن مجال الوعي، وينتج عن ذلك استحالة تنظيم هذه الخبرات، أو توحيدها كجزء من الذات التي تتفكك نظرا لافتقاد الفرد قبوله لذاته، وهذا من شأنه أن يولد مزيدا من التوتر والأسى.
والتوافق كما يرى ماسلو Maslow يعني الاستمرارية في الكفاح، والفاعلية المستمرة لإشباع الإنسان حاجاته التي تتدرج في أهميتها من الحاجات البيولوجية، إلى الحاجات النفسية، وقد حدد ماسلو عدة معايير للتوافق شملت الإدراك الفعال للواقع، وقبول الذات، والتلقائية، والتمركز حول المشكلات لحلها، ونقص الاعتماد على الآخرين، والاستقلال الذاتي، واستمرار تجديد الإعجاب بالأشياء أو تقديرها، والخبرات المهمة الأصلية، الاهتمام الاجتماعي القوي، والعلاقات الاجتماعية السوية، والشعور بالحب تجاه الآخرين، وأخيرا الموازنة بين أقطاب الحياة المختلفة (إنجلر، ١٩٩١).